في اللغة والسياسة : حقوق الفلسطينيين

نشرت في: 
السفير
7 يوليو 2000

I

لا. ليس الهمس. لا همس استيداع الأسرار ولا همس اللمس في نجوى العاشقين. ولا هو همس النميمة وفحيح الدسيسة، فحتى الهمس الشرير له معنى.  الكلام الساكت جهير الصوت عالي النبرة. مسطح لا عمق له.

خلو من المعنى. لا وفاق بين لفظه ودالته ولا بين خطابه ودلالته. كلام عقيم لا يستدرج حجة ولا يستفز تفكيرا. كلام لا يقول شيئا.  يقول السودانيون لمن يقول كلاما بلا معنى »يا زول أنت تغول كلام ساكت«، »الزول« هو الرجل. وعندهم تحل الغين في النطق محل القاف.  والكلام الساكت يأتي على أشكال وألوان. منه البليغ الذي لا يبلغ، ومنه الفصيح الذي لا يفصح، ومنه فخيم المبنى سوقي المعنى، ومنه نخبوي الصياغة عامي الأفكار، ومنه ما تتستر رثاثته بإتقان الزخرف.  الكلام الساكت لغة المغرورين وبيان الأدعياء، وعد من يضمر النكث ووعيد الخائفين للمستضعفين. عبارة كبرياء الكذَبة الذين أمام الأقوياء يخنعون.  ليس في الكلام الساكت ما يستحق الفرز أو يستدعي التحليل أو يقبل التمحيص. يخلو من سحر الالتباس ومن حلاوة المجاز. كلام لا يحبل بفكرة عدا عن ان يقدر على تلقيح فكرة. كلام عنين وعقيم.  هو كلام الخطابة الفارغة. قوامه التبجح.  هو كلام اللئام من الكاذبين. فهو لا يصدر عن عيّ أو جهل أو بلاهة. إنما يصدر عن نية مبيتة ويرمي الى قصد مقصود.  النية المبيتة هي مصادرة الفكر والقول والفعل. القصد المقصود هو إشاعة قبول الكذب والتسليم به والتعامل معه وكأنه صدق، بل كأنه بيان الحقيقة.

II

الكلام الساكت هو خطاب مجتمع التكاذب.  ومن مفارقات الاجتماع الإنساني التي تستدعي التأمل في طبيعته، ان الكذب يتغلغل في اجتماع الناس وهم يتداولون حكمة تقول إنه موردهم التهلكة، بينما يبقى الصدق المنجي من المهالك فضيلة قد يعتنقها الأفراد ويلتزمونها على تفاوت. أنما يعسر، ان لم نقل يستحيل، ان يكون الصدق محلا لتفاهم الجماعات في مقابل تواطؤها على التكاذب، ان يقوم في اجتماع الناس تفاهم على الصدق يقدر على مقارعة التكاذب ونفيه. ربما لكون الكذب أسهل من الصدق؟ ربما لأن الكذب سبيل سهل الى تحقيق المآرب وعملة مقبولة لتبادل المنافع؟ ربما لأن الكذب وسيلة ميسورة لاجتناب المكاره؟ ربما لأن الكذب ستّار للعيوب حيث الصدق إقرار بها وبيان لها؟ ربما لما في الكذب من تجميل وتخييل؟  ربما لكون جوائز الكذب معجلة وعواقبه مؤجلة، بينما يبقى ثواب الصدق وعدا للصادقين؟ 

III

لو أننا توقفنا قليلا. تخلينا عن الاعتياد. استعدنا بعض الاهتمام. تأملنا ما نقرأ وما نسمع. أصدقنا مع أنفسنا وصف ما نرى.. ألن نكتشف أن معظمه »كلام ساكت«؟ يسري هذا على خطب القادة والزعماء. تصريحات السياسيين. بيانات المنظمات والأحزاب، حاكمين ومعارضين. مداولات ما نسميه »برلمانات«. خطب المناسبات والمواعظ. الأغاني والأناشيد. المراثي وخطب التأبين. رسائل التهنئة والتعزية. بيانات تصدر باسم المثقفين. ما نقوله في الفخر، وما تعلو به أصوات تصطنع الحماسة.  خطابنا العام جله ان لم يكن كله : »كلام ساكت«. 

IV

يتهدد المجتمع بالموت عندما يصبح »الكلام الساكت« لغة المثقفين. عندما يستغرق المثقفون في التبرير والتبخير. عندما يكثر كلامهم عن الإنجازات والأمجاد. عندما يستسلمون لتلقي »التوجيهات«. عندما ينتظرون الحكمة ويلتقطونها من شفتي القائد والزعيم. عندما يستبدلون سواد الهزائم بأرجوان الانتصارات. عندما يقبلون الالتزام ب»الخط«. عندما يتطلعون الى الجوائز تأتيهم من غير أهل منحها. عندما يصبح رضى السلطان معيار التحقق. عندما يعتادون مخاطبة فرد بصيغة الجمع، ومخاطبة الجمع بصيغة المهمل.  وليس فقط عندما يقبل المثقفون ان يكونوا شهود زور على ما يجري تحت أعينهم من التاريخ، إنما أيضا عندما يغيبون عن الشهادة على التاريخ.  وعندما يستسلمون للصمت أو يعتصمون به نأيا أو طلبا للسلامة أو ترفعا.  يتهدد الموت المجتمع عندما يكف المثقفون عن الاعتراض.  الاعتراض هو شرارة الجدل. والجدل هو كاشف الكذب الذي لا يكسر دائرة التكاذب سواه. الجدل لا يفرض الصدق، إنما يكشف الكذب ويكشف عن الحقيقة.  وعندما يقول السوداني »يا زول انت تغول كلام ساكت« فإنه يقدح شرارة الجدل.