ماذا حدث في مصر حقاً؟

نشرت في: 
النهار اللبنانية
10 أبريل 2011

منذ تنحي رئيس مصر السابق في 11 شباط 2011، تعيش مصر مشغولة بثنائيات متوالدة. الثنائية اﻷم هي: “قبل الثورة / بعد الثورة" كأن ما حدثت في البلاد بالفعل ثورة تعيش الآن في ظل نتائجها. فما الذي حدث فعلاً؟

ﻻ يغيب عن ملاحظة المراقب لماجرى في مصر منذ 25 كانون الثاني 2011، أنه رغم ضخامة الحدث وما هو مشحون به من مشاعر متضاربة، فقد غابت عنه أبعاد مهمة كانت ضرورية لتبرير وصف "الثورة" الذي اكتسب قدرا من الشيوع أدخله في مجال المسلمات. اول ما غاب من أبعاد وأهمها هو البعد الاجتماعي الذي تتجمع فيه الاحتياجات الحقيقية للمواطنين. اقتصر تناوله على وضع مطلب العدالة الاجتماعية ـ خافتا ـ في ذيل مطالب المعتصمين في ميدان التحرير واقتصرت محاولة تحديد ما تعنيه تلك العدالة الاجتماعية على المطالبة بوضع حد أدنى للأجور؛ وهو مطلب يسهل التنصل منه عندما يجدّ الجدّ بتبريرات تتعلق بالإمكانات المالية، وهو ماحدث بالفعل.

لم تقع محاولة ـ أيا كانت ـ للتطرق إلى موضوع عدالة توزيع الثروة بين المواطنين. وعندما تجرّأ وزير المال فاستصدر مرسوما من المجلس العسكري الحاكم بفرض ضريبة متواضعة على الأرباح الرأسمالية، ألغيت بسرعة تحت ضغط "رجال الأعمال" الذين كانوا يملكون السلطة الحقيقية في العهد الذي فجّر الاحداث التي سميت لاحقا ثورة.

كما غاب عن تلك المطالب التي رُفعت باسم الثورة أي شيء يتعلق بوضع البلد من حيث امتلاكها ناصية أمرها. لم يرد ذكر استعادة المركز الإقليمي للبلاد التي وقعت بفعل الانتقال إلى المعسكر الموالي للولايات المتحدة منذ 1975، ثم بفعل "معاهدة السلام" مع إسرائيل في 1979، تحت سيطرة هاتين الدولتين وأصبحت عاجزة عن القيام بدور إقليمي هو واحد من واجباتها، بل من حقوقها. وما أحاط بمسألة تولي الدكتور نبيل العربي منصب وزير الخارجية مثال واضح على سيادة الهيمنة الأميركية والإسرائيلية على سياسة مصر الخارجية. تولى العربي بالفعل وزارة الخارجية واستهل ممارسته مسؤوليته بتصريح عن العلاقة مع إيران، كان نقيضا للسياسة التي كانت الدولة المصرية تنتهجها منذ الثورة الإيرانية في 1979 والتي كانت نسخة فجة عن السياسة الإسرائيلية، بل مزايدة على سياسية العداء اﻷميركية لإيران. ثم اتخذ الوزير قرارا شجاعا بفتح معبر رفح بين مصر وقطاع غزة. أدى التصريح الودي تجاه إيران إلى تفجير سلطات مصرية غير معلنة ما سمي "قضية تجسس ديبلوماسي إيراني في مصر". وصفها سفير مصري سابق لدى إيران ـ محمد رفاعة ـ بأنها محاولة لتخريب توجهات التحسن في العلاقات المصرية ـ الإيرانية. أما فتح معبر رفح الذي يعني كسر الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة، فما زال محل شد وجذب بين الحكومة المصرية وحكومة "حماس" في خضم هذا التجاذب، سارعت الحكومة المصرية إلى ترشيح العربي أمينا عاما للجامعة العربية، ما يعني أنه في حال تثبيته في ذلك المنصب، يكون عليه أن يستقيل من منصب وزير الخارجية، وهو ما حدث.

ماهو التفسير؟ حتى الآن، لا يوجد تفسير تدعمه المعلومات؛ وإن وجد تفسير متداول في "قاعات الهمس". ما تتداوله قاعات الهمس ، ليس دائما ولا بالضرورة، شائعات. يغلب ويرجح أن يكون ظلالا لمعلومات مكتومة بدأ ينكشف عنها الغطاء. في قاعات الهمس يتردد أن السر عند المجلس العسكري و العضو المهم والمتواري عن المشهد العام، رئيس أركان الجيش الفريق سامي عنان. عندما بدأت الأحداث في “25 يناير"، كان الفريق عنان في زيارة عمل في الولايات المتحدة. عاد إلى مصر بعد تفجُّر الأحداث بأيام معدودة. وتردد في قاعات الهمس، أنه حمل معه تأييدا أميركيا مشروطا لاحتماﻻت انتقال السلطة والتحول الديموقراطي في مصر. كانت الشروط قليلة وإن لم تكن يسيرة:

  1. أن تلتزم مصربنظام الاقتصاد الحر.
  2. أن تلتزم بمعاهدةالسلام مع إسرائيل.
  3. أن تلتزم بالحصار على غزة
  4. ليس مسموحا للقوى الإسلامية المتطرفة بالوصول إلي السلطة.

واضح أن نبيل العربي كان قد تجاوز اثنين من هذه الشروط الأربعة؛ ما يخص إيران وما يخص غزة. كيف استلم العسكر؟ بعد طول عناد لا يشبه إلا عناد بغل حرون، وبعد مجابهة عنيفة استغرقت 18 يوما وأودت بحياة المئات من الشباب المعتصمين وألحقت إصابات بأضعافهم قرأ عمر سليمان بيانا يعلن أن مبارك اختار التخلي عن منصبه وتسليم السلطة إلى المجلس الأعلى للشؤون العسكرية. وكان هذا مخالفا للدستور الذي كتب على هوى مبارك و"بناءً على توجيهاته" التي كانت تشمل كل شيء. نصّ الدستور بمقتضى تعديل أدخله مبارك في 2007 ، أنه في حالة خلو منصب الرئيس لأي سبب يتولى الرئاسة بصفة موقتة رئيس المحكمة الدستورية. ولم يلتفت أحد لا للانقلاب ولا لعدم الدستورية ﻷن خروج مبارك من السلطة، جعل الجميع يتنفسون الصعداء. كذلك لم يلتفت أحد إلى كون البيان نفسه كان منطويا على انقلاب عسكري. فالمجلس الأعلى للشؤون العسكرية، ليس إلا هيئة تختص بالشؤون الإدارية للقوات المسلحة وﻻ صلة لها بشؤون الحكم. كان تنحي مبارك عن الرئاسة انتصارا لم يتوقعه ﻻ المعتصمون ولا من دسّ نفسه في أوساطهم وحاول توجيه حركتهم وتفكيرهم ممّن نصَّبوا أنفسهم "مجالس حكماء" و"مجالس أمناء".

من هنا انطلقت وسادت ثنائية "قبل الثورة / بعد الثورة" التي مازالت تحكم التفكير وحركة اﻷحداث في مصر ولا تنتج إلا إرباك خطوات التغيير، وتبذر بذور خيبة الأمل في أوساط من صدقوا الثنائية. حتى الآن ماذا أنجزت "الثورة"؟ تنفرد الحالة المصرية بكون أهم منجزات " الثورة" هو مجرد اندلاعها؛ فقد أعادت الشعب إلى الاهتمام بالسياسة، بل الانغماس فيها. في أواخر القرن التاسع عشر، زار الروائي الأميركي هنري جيمس بلاده بعد طول غياب منذ أن اختار الإقامة في انكلترا. وكان ما لفت نظره ـ وأزعجه، كثرة الصحف وتكاثرها إلى حد جعل منها سلطة سياسية لا يضبطها قانون ولا ضابط، وأداة بأيدي سياسيين طموحين، استطاعوا من طريقها التأثير في وجهة تاريخ الولايات المتحدة، فسماها "جمهورية الصحف" بينما كانت تتباهى بأنها الديموقراطية اﻷولى في التاريخ. ما أنتجته "ثورة 25 يناير" في مصر شبيه بذلك. فمصر الآن هي جمهورية برج بابل. الكل يتكلم ولا يكاد أحد يسمع. فكل لا يسمع إلا نفسه. ولا مجرد حوار. فنحن اﻵن "بعد الثورة" فما الحاجة إلى الحوار؟ وظيفة الحوار أن يؤدي إلى بلورة مشروع عام للبلاد.

“بعد الثورة" تعني أن المشروع قد تحقق. وما تحقق حتى الآن ليس قليلا على أي حال؛ عاد الشعب إلى السياسة. تم التخلص من حسني مبارك دون نظامه الذي ما زال قائما؛ فالمجلس العسكري الذي أصبح حاكما هو جزء من ذلك النظام والذي عين أعضاءه وولاه السلطة هو حسني مبارك. وما زال المحافظون في مناصبهم وأماكنهم. والمحافظون في مصر هم السلطة الفعلية على الأرض؛ فبحكم قانون الإدارة المحلية "لكل منهم سلطات رئيس الجمهورية في نطاق محافظته"، وهي سلطات غير محدودة. ومازالت المجالس المحلية التي وضعها النظام السابق في أماكنها بانتخابات مزورة، قائمة تمارس صلاحياتها ومفاسدها. صحيح خرج من الحياة السياسية شر عظيم، لكن لم يدخلها خير "لا عميم ولا لميم". وما تعيشه مصر الآن هو حكم عسكري يختفي وراء الأحداث التي بدأت في 25 كانون الثاني وانتهت إلى ختام مراوغ في 11 شباط ببيان قرأه - عبر التلفزيون - اللواء عمر سليمان، الذي كان شريك حسني مبارك في تنفيذ إرادة إسرائيل، إلى الحد الذي جعلها تقول علنا إنها "تشعر بالأمان ما بقي مبارك على رأس السلطة في مصر" وتفخر بأنه كان "كنزا استراتيجيا لها". في ظل الحكم العسكري القائم، لا يخجل من يدعون أنهم "قوى الثورة" من الوقوف على أبواب "المجلس الأعلى للشؤون العسكرية ليتقدموا إليه بـ "مطالب الثورة" عارفين أن له القول الفصل في نهاية المطاف. ولا يجد هؤﻻء غطاء سوى التظاهرات التي يسهِّل لهم العسكر تنظيمها والحشد لها. بدعوى أن "ميدان التحرير لن يغادر مكانه". «.