فتاةٌ من ألاسكا - زينب ترحيني

نشرت في: 
صحيفة السفير (شباب)
بيروت
17 يوليو 2012

لا أذكر شيئاً من حرب تمّوز. لم أتمكّن من نظم التفاصيل على شكل "ذكريات". تلك الحرب تسكنني منذ بدايتها. أعيش رعبها وخوفها وتفاصيلها. تماماً كما لو أنها الآن خلف شباك منزلنا. أبي ما زال، بعينيّ، نائماً حتّى ساعات الصباح الأولى. لم توقظ الرجل أصوات القصف، ولا شحوب وجهي. ما زال حيّنا متكوّماً على بعضه. ما زلت أستعيد نكات جيراننا ذاك الصبح. وقعت المجزرة قريباً منّا. أحنوا رؤوسهم واستمروا برشف القهوة. استعادوا انتصاراتهم على الجيش الإسرائيلي وهم يشيرون بأصابعهم إلى أثر الطائرة. أخافني استهتارهم. ربّما صوّرتنا تلك المحلّقة في "سمائنا". أمّا جارتنا "الصغيرة" التي غابت عن الاجتماع، فما زالت تغمر الجدار إلى الآن. أحاول نزع صورتها العالقة في رأسي. لكن بلا جدوى، رغبة جارفة بتركها معلّقة بالحائط. شجرة المشمش لم تغب برغم السنين عن بالي. سادس أيّام الحرب قرّر والدي قطع الشجرة. أمّي تطلب منه النزول وعمّتي تصرخ به ليقصّ جذعاً نافراً. ما زال والدي في فكري "جالساً قرب الطائرة". هناك في أعلى الشجرة، منشاره يقصّ ما تيسّر، وفي باله "أنا قرّرت نهايتها وليس عدوّي".

قوقعتي ترافقني. في تلك الأيّام لازمت غرف المنزل. أرهقني تكرار عبارة "بكرا بتخلص". مجزرة تلو الأخرى ولم ينته شيء. مجنون من يظنّ أن وحشاً "قد" يشبع.

ما زالت دموع والديّ وعمّتي تنهمر فوقي. لم أمت حينها. على العكس قرّرت الهرب. أبلغتني أمّي منذ اليوم الأوّل ألاّ أفكر بإمكانية ترك الجنوب. أخبرتني أنّ هزيمتنا الأبديّة تكمن في دخول الصهاينة إلى بيوت بلا أهلها. اقتنعت إلى حدّ ما. لكن أصوات القصف ورائحة الموت التي ما زالت تزكم أنفي أخافتني. لبست ضيعتي حلّة جعلتها غريبةً عنّي. أحياء فارغة. أحياء أخرى ممتلئة لحماً قد يتكدّس فوق بعضه في أيّ لحظة. دكاكين مقفلة. لا أثر للمنازل ليلاً، فلا كهرباء ولا شموع. ذاك الوحش أرعبنا لدرجة طمست أصواتنا مع انعدام الضوء. تحوّلنا مجرّد أرواح ملتصقة تنتظر موتاً. ما زالت صديقتي خلفي تنعق كالبوم. لم تغب منذ ذاك الوقت صورتها عن بالي. مع معرفتها قراري، انطلق نعيقها. ردّدت: "رح تتركيني موت وحدي". رحلت وصوتها في أذنيّ: "ستموتين على الطريق، لن تصلي بيروت، ستموتين لن تصلي".

تقف الآن أمامي بوجهها الأصفر وعينيها الممتلئتين دمعاً. لم نمت لكنّ الرعب تناتشنا حينها. وصلنا المكان الآمن. هناك بدأت رحلة جديدة. أدمنت جلوس الشرفة ليلاً. في البعيد مطارٌ يُقصف ويحترق. رتّبت الكرسي بالشكل الأكثر وضوحاً لمشهدي. فقط مع قصف المطار وإدارة التلفاز كنت أذكر الحرب. كنت كالمقيمة في ألاسكا. تفاديت الاتّصال بأحد. لا أريد سماع أخبار الموت. انقطاعي عن الطعام أيّام الحرب، هو وحده ما لم أحمله. عدتُ لطبيعتي بمجرّد خروجي من الدائرة المحترقة. وسّعت أفق وجباتي، فربّما يجعل الطعام مشاهد الحرب أكثر سلاسة على معدتي. ما زالت ضحكة والدي على الهاتف ترنّ في أذني. عندما هاتفته من "غربتي الداخلية". أخبرني بعادتهم الجديدة. يوميّاً مع العصر، جولةٌ على ما تيسّر من الأقرباء والجيران. هدف اللقاء: "تهانينا لا زلنا أحياء ونتحدّى".

ما زلت خائفة. تلتصق أحداث الحرب في مقدّمة رأسي. ما زلت أبكي عند رؤية "اليونيفيل" في شوارعنا. ما زلت أركض نحو السطح لرؤية عبور الطائرات الإسرائيلية. أرغب برؤيتها لمرّة تهوي، انتقاماً لنفسي.